في الآونة الأخيرة صارت كتابتي كل سنة !
لكني لم أكترث كثيراً لأني لطالما ظننت أن المشاعر كلما قويت كلما ترجمت نفسها لأحرف من تلقاء نفسها ..
لكن يبدو أن الأمر عكسي.. و(تعجز الكلمات) و ( يعجز الوصف ) ..
هي الكلمات الأبلغ والتي تصفني أكثر
لمّا أردت أن أكتب عن هذي التجربة بالذات ! تجربة دخول صغير لعالمي ..
وتجربة دخولي عالم الامومة !
وكلما مرت الأيام كلما ازدادت المهمة صعوبة علي ،فرأيتُ أن ألتقط متى استطعتُ شيئاً من مشاعري المبعثرة .. والتي تكتشف كل يوم شيئاً عن هذا العالم الجميل ..
حاولت أن أدونها.. قبل أن يحجبها الاعتياد فأنسى كيف كانت ردة فعلي الأولى كأم لكلّ ما يحدث حولي ،
وهذا ما بدأ يحصل لي فعلاً لولا أني دونت ما شعرت به على فترات متفرقة طوال العام الاول لطفلي ..
.
.
الأمومة وما أدراك ما الأمومة ..
الامومة عندي أمرٌ عجبتُ منه بقدر ما أعجبني !
أقصد ! تكشف لي أن الفتاة حين تصبح أمّاً ! تتغير !
تغدو بقلب جديد ومشاعر مختلفة ومعانٍ كثيرة تغمر حياتها بسبب هذا الصغير !
حبّاً ، خوفاً ، فرحاً ، قلقاً ، عطفاً وحناناً .. ومشاعر كثيرة لا أعلمها ؛ الله وحده يعلمها وهي في قلوب الأمهات تسكن ولا تُحْكى ! ودهشتي الكبيرة ! والتي لم تنطفئ بعد !أنني لم أكن أعلم بكلّ هذا التغير الذي سأقدم عليه ! وكل هذي المعاني التي تدخل حياتي ..والدهشة الأكبر منها .. أنه برغم عدد الأمهات الذي أعرف في حياتي إلاّ أنه لم يخبرني أحدٌ منهن بذلك و لا حتى أمي ! حسناً .. ربما حكت لي !لكني يبدو أني لم أعي أبداً ماتقول ، وكيف لي ؟ وهي تصف الذي لا يوصف و تحكي ما لا يحكى بل (يحسّ ) به فقط !
.
.
لماذا أكتبُ ..؟
أنا هُنا في محاولة يائسة ! أن أصفّ حروفي والكلمات بعضها فوق بعض..!
أوجهها .. لكلّ ابن ، ولكلّ والد ، ولوالديّ خصوصاً ، ولربي سبحانه ..
لكل ابن : ليعلم كم يحمل والداه له من المعاني والمشاعر ، فيقدرهذا بجميل بر وإحسان ..!
لكل والد :جرّب هذا الشعور ليعيش معي تفاصيل المشاعر واللحظات على اختلاف ألوانها ويستشعر منة الامومة أو الأبوة التي اختاره الله لها ثمّ يزيد في الشكر والتقوى بها ..!
لوالداي : ليعلما أني بعد أن صرتُ مثلهما فقط علمتُ كم أنا غارقة في التقصير بحقهما مقابل ما يحملانه لي وعني ..!
لله العظيم المنان : لأشكره دائماً وأبداً على هبته الكبيرة التي جاءت على شكل مخلوق صغير !
وأدخلتني عالماً آخر مختلفاً عن الدنيا ..!
.
.
فهمتُ لغة الأمهات..
قبل أن أصبح أمّاً كنت أرى الأمهات ، ولا أستطيع تفسير كثير من تصرفاتهن ! أو أحاديثهنّ , وكأنهن يحكين بلغة أخرى ! وما إن غدوتُ واحدة منهن حتى فهمت اللغة وفهمت ما وراءها !
سأعطي مثالاً : كنتُ أسمع كثيراً كلمات التباريك في زياراتي لمواليد جدد ! غير أن وقع مباركتهنّ لي في مولودي مختلفة , مختلفة تماما ! لا أعلم لماذا؟ وكأنالشفرة بيني وبينهم قد فكت رموزها !!
فمنهن من قالت لي ذقتِ طعم الولد ؟! ومن قالت (شفتِ زين العيال) ! ومن ترجمت كل هذا بدموع حارة في سلامها أو ابتسامة عريضة ..حتى أيقنتُ بلغة الأمهات التي لا يعرفها سواهن .. إذ فهمتهنّ هذه المرة ! فهمتهنّ أخيراً !
.
.
ما كنتُ أظنّ ..
نعمةُ الأمومة غيرت كثيرا من ظنوني ! ما ظننتُ يوماً أن الأمومة تمدّ بهذا القدر من الـ السعادة ..وما ظننتُ أن في داخلي قدراً من الود والرأفة والرحمة والمحبة كمثل هذي التي خرجت لهذا المخلوق الصغير ..
وماظننتُ أن قلبي الذي في داخلي يسع كل هذي المشاعر( الكثيرة ) !
بالرغم من أن العلاقة بيننا مجرد أشهر معدودة ..
ما ظننتُ أنّ هناك شيء أحتاجه في حياتي إلى أن أتى صغيري لهذا العالم فاكتشفتُ بعدها أن حياتي لم تكتمل بعد ..!
أو كأنها تنتظر قدومه منذ زمن ! أو كأنها كانت ناقصة ! حتى ولو أني لم أفكر به يوماً قبل أن يأتي !
في الحقيقة ، أنا نفسي لا أعرف كيف أشعر بهذا الشعور وهو من المنطق بعيد !
لكن كما قلت حديثي بلغة الأمهات ! وصرتُ الآن أتكلم بها وربما لم أتقنُ بعد كيفية الترجمة ..
صدّقت مشاعري هذه أخت مسلمة بريطانية زارتني لما كنتُ في غربتي فقالت : ألستِ تشعرين أنه لا يمكن أن تعيشي من غير طفلك ؟؟ رغمَ أنه أتاك قبل أشهر فقط ، ولم تعرفينه من قبل ؟ فابتسمتُ بقوة ! وكأنها دخلت قلبي وترجمت بالضبط ما أشعر به ! لكنها لم تفعل إنما كانت تحمل قلب أمٍّ مثلي ومثل كلّ أمّ !!
.
.
زينة الحياة ..
وعلى ذكر الزيارات ؛ فقد زارتني صديقة مقربة ! وحدثْتُها بكمية المشاعر التي تجتاحني تجاه هذا الصغير وكيف غدوتُ شبه إنسان جديد بحياة جديدة ! لكنها حياة أفضل بكثير من حياتي السابقة ! فقالت لي وأحسب أن القرآن قد ملأ قلبها : ماقال الله عبثاً أنهم ( زينة الحياة الدنيا)إلاّ وهم كذلك !! فعلاً فمذ أن رزقتُ بصغيري وأنا أرى الحياة بمنظور آخر ! تمسكتُ بها أكثر ! وكأني رأيتُ زينتها وجمالها !! لم أعد أغضب منها بتلك السرعة التي كنتُ أفعل من قبل ! فوجود كائن صغير ! بعينيه وضحكاته وحركاته وانداهشاته ملأ دنياي سعادة من غير جهد أبذله!!!
.
.
حديثٌ ذو شجون !
لطالما كنتُ أتململ كثيراً من أحاديث الامهات عن الأطفال ! كيف يأكلون وماذا يشربون وماذا عليهم في عمر معين أن يفعلون ..ولطالما اعتقدتُ أنها نصائح متبادلة مملة لا أدري مالهدف في تطويلها أو الوصف الدقيق لها والإسهاب فيها !ثمّ لما صرتُ أمّاً؛ علمتُ أنهم بهذي الأحاديث يتكلمون عن أحبّ ما يملكون وأغلى ما عندهم .. والإسهاب والتطويل إنما هو رغبة في إبقاء المُتَحدَّثِ عنه حاضراً في حديثهم قدر الإمكان ..( من أحب شيئاً أكثر من ذكره) !
كنتُ أبتسم لسماع أحاديث الأمهات في قاعات انتظار المشافي والعيادات ! وأعجبُ كثيراً حين تبتدئ إحداهنّ الأخرى وقد قابلتها للتو ! ثمّ تكوّنا علاقة يحسبهما المارّ أن بينهما معرفة قديمة ! فقط لأن الحديث بينهم نقطة وصل غالية على كليهما ..
ووجدتُ أنا نفسي كثيراً من الإنجليزيات في الغربة يلاطفنني بسبب صغيري ويبدأن الحديث معي ويلاطفنني ، وأنا لستُ النوع الذي يفضلونه بالعادة بسبب حجابي واختلافي عنهم .. إلاّ أن هذا الصغير ألغى الحواجز وأقام جسراً صغيراً من الود !
.
.
تغيرت حياتي ..
لن أنكر أن حياتي تغيرت ! ولابدّ لي من أن أدفع ثمن هذي العطية الكبيرة .. !
خروجي به في الأشهر الأولى من عمره يأخذ ٤٥ دقيقة استعداد كأقل تقدير يوم أن كنت أخرج لوحدي بعشردقائق فقط .. ! وليس كل مكان يمكن أن أذهب به إليه.. والخروج بدونه وما أدراك ما الخروج بدونه ! قرار كبير يصحبه تأنيب ضمير دائم ، ودراسة يوم صارت تأخذ يومين ! وإعداد أي أمرٍمّا قدرَ ساعة صار يأخذ معه أربع ساعات !والنوم صار صديقا أشتاق له كثيراً ولا ألتقي به ! وكلّ مرحلة من حياته تتطلب اهتماً خاصّاً ومتطلبات مختلفة…
همٌّ ومسؤولية كبيرة .. لا أنكرُ هذا !! لكن بقدر المسؤولية التي أتحملها بل أكثر ، هو في المقابل يمدني بفرح وسعادة وبهجة تملأ قلبي والمكان بوجوده ، مازلتُ أرى كلّ شيء ثمناًيسيراً مقابل ضحكاته ولمعان عينيه ومناغاته ..!
.
.
ماذا يعني أنّ هذا الطفل ابني ..
حين لا أملّ من النظر إليه !
حين يذوب قلبي إذا بالصدفة وضع بعيني عينيه ..
حين أضمه بقوه وأشعر أن لاشيء مما في قلبي قد ارتوى بعد ..
كما كانت جدتي رحمها الله تقول وهي تضمّنا ( اسقِ زريعك ) وقد أبلغت في الوصف عني سقاها الله من أنهار الفردوس ! كأن في داخلي زرعة صغيرة لا تُروى ولا تَكفّ من الارتواء إلاّ بضمته ..!
حين يبكي ويبكي ولا أجد نفسي منزعجة بقدر ما أنا منشغلةٌ أفكر فقط كيف أريحه من هذا البكاء ..!
حين ينام بالليل فأنسى تعب اليوم معه كله وأتأمل عذوبة سكونه وهو نائم !
حين أعيدُ له أيّ حركةٍ مراتٍ ومراتٍ إذا ظلّ يضحك عليها بصوت طفولي ساحر وهي وقد لا تعني أي شيء!
حين أشعر أني ملكت العالم بابتسامته ..وأنّ حياتي لا تريد شيئاً أكثر !
حين أعجب من نفسي ومشاعري فأسأل أمي : هل هناك ماتخفونه عني بهذي الدنيا ؟ كما أخفيتم عني شعور الأمومة .فتبتسم هي وأختي الكبرى وتقول لا ندري ! جربي أن تنجبي طفلاً آخر وأخبرينا !
.
.
أتى قبيل الموعد ..
قدوم صغيري كان قبل شهر كامل من موعده المحدد ..
لكن هذا التوقيت كان بركة عليّ وعلى من حولي من أول يوم رزقتُ به ..فقدومه كان مع آذان مغرب الجمعة بعد ١٠ أيام فقط من رحيل جدتي الحنون رحمها الله .. وهكذا كانت مشيئة الله القدير ذهب بقلب عزيز علينا .. ثمّ أمدنا بقلب طاهر صغير نجتمع حوله ونبتسم لتسلو قلوبنا الموجوعة ..ولتخفف علينا وطأة الفقد (وأن كنّا ما نزال نفتقدها)
.
.
ممتنة لله ثمّ لك صغيري !
غيرتني كثيراً .. ملأت حياتي حباً وسعادة لم أعلم انهما خلقا بهذا القدر في الدنيا !فكرة احتياجك لي هذي بحد ذاتها جعلتني أحب نفسي ! وجدتني بهذا الأمر أصبحت أكثر أهمية من ذي قبل ! و قدومك ربما الأنجاز الأكبر الذي حصلته في حياتي ! واعلم يا صغيري أنه بقدرعظيم الامتنان لله بوجودك ، كم أنا أحمل همّ مسؤولية تربيتك كما يحب !
وأرجو من الله العلي القدير أن يعينني على التربية الحسنة التي ترضيه تعالى عني وعنك .. وتمكنني من شكر نعمة قدومك ، والبهجة التي أتيت بها معك ..وأن يرزقني القوة والثبات أمام مغريات الحياة التي تعجبك فأصدها عنك خوفاً عليك .. وأن لا أضعف مهما يكن أو يحصل ، وأن تكون لي حجة يوم ألقاه ! وولد صالح يدعو لي بعد رحيلي..
.
.
أخيراً ..
سبحان ربي الذي أمرنا بالدعاء لهما بالرحمة خصوصاً مقابل تربيتهما!!
“ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً” !
وكأني بدأتُ أعي من مشاعري في تربية ابني بأن الجزاء الذي اختاره الله للوالدين هو من جنس العمل !!
والداي الغاليان 💜 : علمتُ الآن !! علمتُ كم أحطتما تربيتي برحمةٍ بالغة .. ومازلتما على ذلك